الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولما كان التقدير؛ في أن تقوموا لهم بالقسط، أي في ميراثهم وسائر حقوقهم ولا تحقروهم لصغرهم؛ عطف عليه قوله: {وأن تقوموا} أي تفعلوا فيه من القوة والمبادرة فعل القائم المنشط {لليتامى} من الذكور والإناث {بالقسط} أي بالعدل من الميراث وغيره.ولما كان التقدير: فما تفعلوا في ذلك من شر فإن الله كان به عليمًا وعليكم قديرًا؛ عطف عليه قوله ترغيبًا: {وما تفعلوا من خير} أي في ذلك أو في غيره {فإن الله} أي الذي له الكمال كله {كان به عليمًا} أي فهو جدير- وهو أكرم الأكرمين وأحكم الحاكمين- بأن يعطي فاعله على حسب كرمه وعلو قدره، فطيبوا نفسًا وتقروا عينًا؛ روى البخاري في الشركة والنكاح ومسلم في آخر الكتاب وأبو داود والنسائي في النكاح عن عروة أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها عن قول الله عز وجل: {فإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى} إلى {رباع} قالت: يا ابن أختي! هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشاركه في ماله، فيعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن؛ قال عروة: قالت عائشة رضي الله عنها: ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن فأنزل الله عز وجل: {ويستفتونك} إلى: {وترغبون أن تنكحوهن}.والذي ذكر الله أنه يتلى عليكم في الكتاب: الآية الأولى التي قال فيها: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء} قالت عائشة رضي الله عنها: وقول الله تعالى في الآية الأخرى: {وترغبون أن تنكحوهن} هي رغبة أحدكم يتيمته- وقال مسلم: عن يتيمته- التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن، زاد مسلم: إذا كن قليلات المال والجمال، وقال البخاري في النكاح: فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى في الصداق؛ وفي البخاري ومسلم في التفسير عن عروة أيضًا {يستفتونك في النساء} الآية قالت: «هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها فأشركته- وقال مسلم: لعلها أن تكون قد شركته، في ماله حتى في العذق فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلًا فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها فنزلت هذه الآية؛ وفي رواية مسلم: نزلت في الرجل تكون له اليتيمة وهو وليها ووارثها ولها مال وليس لها أحد يخاصم دونها فلا ينحكها لمالها فيضر بها ويسيء صحبتها فقال: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء} يقول: ما حللت لكم، ودع هذه التي تضر بها» وفي رواية له وللبخاري في النكاح «فيرغب عنها أن يتزوجها ويكره أن يزوجها غيره فيشركه في ماله- وقال البخاري: فيدخل عليه في ماله- فيعضلها ولا يتزوجها ولا يزوجها، زاد البخاري: فنهاهم الله سبحانه وتعالى» عن ذلك، وحاصل ذلك ما نقله الأصبهاني أنه كان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه، فإذا فعل بها ذلك لم يقدر أحد أن يتزوجها أبدًا، فإن كانت جميلة وهواها تزوجها وأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها الرجال حتى تموت، فإذا ماتت ورثها.وما أنسب ذكر هذا الحكم الذي كثرت فيه المراجع على وجه يؤذن بعدم إذعان بعض النفوس له عقب آية الإسلام الذي معناه الانقياد والخضوع والإحسان الذي صار في العرف أكثر استعماله للاعطاء والتألف والعطف لاسيما للضعيف، وذكر إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي تقدم أنه أتم ما ابتلاه الله تعالى به من الكلمات ووفي بها من غير مراجعة ولا تلعثم، وأنه كان حنيفًا ميالًا مع الدليل، تعنيفًا لمن قام عليه دليل العقل وأتاه صريح النقل وهو يراجع! وإذا تأملت قوله تعالى: {من يعمل سوءًا يجز به} [النساء: 123] مع قوله فيما قبل {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم} [النساء: 9] لاحت لك أيضًا مناسبة بديعة. اهـ.
.قال الفخر: اعلم أن عادة الله في ترتيب هذا الكتاب الكريم وقع على أحسن الوجوه وهو أنه يذكر شيئًا من الأحكام ثم يذكر عقيبه آيات كثيرة في الوعد والترغيب والترهيب ويخلط بها آيات دالة على كبرياء الله وجلال قدرته وعظمة إلهيته.ثم يعود مرة أخرى إلى بيان الأحكام، وهذا أحسن أنواع الترتيب وأقربها إلى التأثير في القلوب، لأن التكليف بالأعمال الشاقة لا يقع في موقع القبول إلاّ إذا كان مقرونًا بالوعد والوعيد، والوعد والوعيد لا يؤثر في القلب إلاّ عند القطع بغاية كمال من صدر عنه الوعد والوعيد، فظهر أن هذا الترتيب أحسن الترتيبات اللائقة بالدعوة إلى الدين الحق.إذا عرفت هذا فنقول: إنه سبحانه ذكر في أول هذه السورة أنواعًا كثيرة من الشرائع والتكاليف، ثم أتبعها بشرح أحوال الكافرين والمنافقين واستقصى في ذلك، ثم ختم تلك الآيات الدالة على عظمة جلال الله وكمال كبريائه، ثم عاد بعد ذلك إلى بيان الأحكام فقال: {وَيَسْتَفْتُونَكَ في النساء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ}. اهـ..من أقوال المفسرين: .قال الفخر: ذكروا في سبب نزول هذه الآية قولين:الأول: أن العرب كانت لا تورث النساء والصبيان شيئًا من الميراث كما ذكرنا في أول هذه السورة، فهذه الآية نزلت في توريثهم.والثاني: أن الآية نزلت في توفية الصداق لهن، وكان اليتيمة تكون عند الرجل فإذا كانت جميلة ولها مال تزوج بها وأكل مالها، وإذا كانت دميمة منعها من الأزواج حتى تموت فيرثها، فأنزل الله هذه الآية. اهـ..قال القرطبي: قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النساء}.نزلت بسبب سؤال قوم من الصحابة عن أمر النساء وأحكامهن في الميراث وغير ذلك؛ فأمر الله نبيه عليه السلام أن يقول لهم: الله يفتيكم فيهن؛ أي يبيّن لكم حكم ما سألتم عنه.وهذه الآية رجوع إلى ما افتتحت به السورة من أمر النساء، وكان قد بقيت لهم أحكام لم يعرفوها فسألوا فقيل لهم: إن الله يفتيكم فيهن.روى أشهب عن مالك قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُسأل فلا يُجيب حتى ينزل عليه الوَحْيُ، وذلك في كتاب الله {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النساء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ}.{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى} [البقرة: 220].و{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر} [البقرة: 219].{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال} [طه: 105].قوله تعالى: {وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ} {مَا} في موضع رفع، عطف على اسم الله تعالى.والمعنى: والقرآن يفتيكم فيهن، وهو قوله: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النساء} [النساء: 3] وقد تقدّم. اهـ..قال الألوسي: {وَيَسْتَفْتُونَكَ في النساء} أي يطلبون منك تبيين المشكل من الأحكام في النساء مما يجب لهن وعليهن مطلقًا فإنه عليه الصلاة والسلام قد سئل عن (أحكام) كثيرة مما يتعلق بهن فما بين (حكمه) فيما سلف أحيل بيانه على ما ورد في ذلك من الكتاب وما لم يبين (حكمه) بعد بين هنا، وقال غير واحد: إن المراد: يستفتونك في ميراثهن، والقرينة الدالة على ذلك سبب النزول، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جبير قال: كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ أن يقوم في المال ويعمل فيه ولا يرث الصغير ولا المرأة شيئًا، فلما نزلت المواريث في سورة النساء شق ذلك على الناس، وقالوا: أيرث الصغير الذي لا يقوم في المال والمرأة التي هي كذلك فيرثان كما يرث الرجل؟ا فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السماء فانتظروا فلما رأوا أنه لا يأتي حدث قالوا لئن تم هذا إنه لواجب ما عنه بدّ، ثم قالوا: سلوا فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية.وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال: كان أهل الجاهلية لا يورّثون النساء ولا الصبيان شيئًا كانوا يقولون لا يغزون ولا يغنمون خيرًا فنزلت، وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نحوه، وإلى الأول مال شيخ الإسلام. اهـ..قال الفخر: اعلم أن الاستفتاء لا يقع عن ذوات النساء وإنما يقع عن حالة من أحوالهن وصفة من صفاتهن، وتلك الحالة غير مذكورة في الآية فكانت مجملة غير دالة على الأمر الذي وقع عنه الاستفتاء. اهـ.قال الفخر:أما قوله تعالى: {وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ} ففيه أقوال:الأول: أنه رفع بالابتداء والتقدير: قل الله يفتيكم في النساء، والمتلو في الكتاب يفتيكم فيهن أيضًا، وذلك المتلو في الكتاب هو قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ في اليتامى} [النساء: 3].وحاصل الكلام أنهم كانوا قد سألوا عن أحوال كثيرة من أحوال النساء، فما كان منها غير مبين الحكم ذكر أن الله يفتيهم فيها، وما كان منها مبين الحكم في الآيات المتقدمة ذكر أن تلك الآيات المتلوة تفتيهم فيها.وجعل دلالة الكتاب على هذا الحكم إفتاء من الكتاب، ألا ترى أنه يقال في المجاز المشهور: إن كتاب الله بيّن لنا هذا الحكم، وكما جاز هذا جاز أيضًا أن يقال: إن كتاب الله أفتى بكذا.القول الثاني: أن قوله: {وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ} مبتدأ و{فِى الكتاب} خبره، وهي جملة معترضة، والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ، والغرض منه تعظيم حال هذه الآية التي تتلى عليهم وأن العدل والإنصاف في حقوق اليتامى من عظائم الأمور عند الله تعالى التي يجب مراعاتها والمحافظة عليها، والمخل بها ظالم متهاون بما عظمه الله.ونظيره في تعظيم القرآن قوله: {وَإِنَّهُ في أُمّ الكتاب لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 4].القول الثالث: أنه مجرور على القسم، كأنه قيل: قل الله يفتيكم فيهن، وأقسم بما يتلى عليكم في الكتاب، والقسم أيضًا بمعنى التعظيم.والقول الرابع: أنه عطف على المجرور في قوله: {فِيهِنَّ} والمعنى: قل الله يفتيكم فيهن وفيما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء، قال الزجاج: وهذا الوجه بعيد جدًا نظرًا إلى اللفظ والمعنى، أما اللفظ فلأنه يقتضي عطف المظهر على المضمر، وذلك غير جائز كما شرحناه في قوله: {تَسَاءلُونَ بِهِ والأرحام} [النساء: 1] وأما المعنى فلأن هذا القول يقتضي أنه تعالى في تلك المسائل أفتى ويفتي أيضًا فيما يتلى من الكتاب، ومعلوم أنه ليس المراد ذلك، وإنما المراد أنه تعالى يفتي فيما سألوا من المسائل. اهـ..قال الألوسي: {وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ في الكتاب} في {مَا} ثلاثة احتمالات: الرفع والنصب والجر، وعلى الأول: إما أن تكون مبتدأ والخبر محذوف أي وما يتلى عليكم في القرآن يفتيكم ويبين لكم وإيثار صيغة المضارع للإيذان بدوام التلاوة واستمرارها، وفي الكتاب متعلق بيتلى أو بمحذوف وقع حالًا من المستكن فيه أي يتلى كائنًا في الكتاب، وإما أن تكون مبتدأ، و{فِى الكتاب} خبره، والمراد بالكتاب حينئذٍ اللوح المحفوظ إذ لو أريد به معناه المتبادر لم يكن فيه فائدة إلا أن يتكلف له، والجملة معترضة مسوقة لبيان عظم شأن المتلو، وما يتلى متناول لما تلى وما سيتلى، وإما أن تكون معطوفة على الضمير المستتر في {يُفْتِيكُمْ} وصح ذلك للفصل، والجمع بين الحقيقة والمجار في المجاز العقلي سائغ شائع، فلا يرد أن الله تعالى فاعل حقيقي للفعل، والمتلو فاعل مجازي له، والإسناد إليه من قبيل الإسناد إلى السبب فلا يصح العطف، ونظير ذلك أغناني زيد وعطاؤه، وإما أن تكون معطوفة على الاسم الجليل، والإيراد أيضًا غير وارد، نعم المتبادر أن هذا العطف من عطف المفرد على المفرد، ويبعده إفراد الضمير كما لا يخفى، وعلى الثاني: تكون مفعولًا لفعل محذوف أي ويبين لكم ما يتلى، والجملة إما معطوفة على جملة {يُفْتِيكُمْ} وإما معترضة، وعلى الثالث: إما أن تكون في محل الجر على القسم المنبئ عن تعظيم المقسم به وتفخيمه كأنه قيل: قل الله يفتيكم فيهنّ وأقسم بما يتلى عليكم في الكتاب وإما أن تكون معطوفة على الضمير المجرور كما نقل عن محمد بن أبي موسى، وما عند البصريين ليس بوحي فيجب اتباعه، نعم فيه اختلال معنوي لا يكاد يندفع، وإما أن تكون معطوفة على النساء كما نقله الطبرسي عن بعضهم، ولا يخفى ما فيه. اهـ.
|